كتابات وآراء


السبت - 27 ديسمبر 2025 - الساعة 11:07 م

كُتب بواسطة : د. أحمد علي عبداللاه - ارشيف الكاتب


أما كان الأجدر بما تُسمّى بالشرعية أن تطلب صراحةً مواصلة دعم التحالف باتجاه استكمال معركة تحرير الشمال، بدلاً من حالة الستاتيكو التي انهكت الشعب وأوصلت الوضع إلى حدود الانهيار الشامل؟

خاصة وأنها أعلنت، بلا مواربة، أن عام 2025 هو "عام الحسم"، وبعد أن تلقت صنعاء ضربات خارجية أضعفت، نظرياً على الأقل، مركز ثقل الحوثي وأربكت حساباته.

لقد أوشك العام على الانقضاء بلا حسم ولا أفق أيضاً ولا حتى مسار واضح، وإنما، ويا للمفارقة الثقيلة، تتقدم الشرعية في هذا التوقيت بطلب الحرب على القوات الجنوبية لأنها ذهبت لتصحيح اختلالات خطيرة طال الصبر عنها!
أليس في هذا درس جديد أم أنه تكرار فجّ لعطب قديم؟
السؤال هنا ليس عسكريًا بقدر ما هو وجودي:
هل تغيّرت البوصلة؟
هل أُعيد تعريف الفكرة؟
هل انقلب الهدف من استعادة الدولة في صنعاء إلى إدارة عملية توزيع السيطرة على الجنوب؟

إنّ دولةً بحجم المملكة العربية السعودية، بثقلها الاستراتيجي وما راكمته من خبرة إقليمية تشكّلت عبر عقود من إدارة التوازنات الصعبة، لا يمكن اختزال سلوكها السياسي في منطق العواصف الفرعية وفي توقيت حرج للغاية. فهل يمكن لدولة كهذه أن توجّه أدواتها السيادية، سياسيًا أو ميدانياً، للضغط أو الاستهداف، الفعلي أو الرمزي، لأهم قوة عسكرية قائمة على الأرض في مواجهة مشروع الحوثي وإيران، لا بوصفها خصماً، بل لإدراجها قسراً ضمن خرائط التسويات المريحة.
في السياسة، نعم، كل شيء ممكن، كما قال نائب وزير الخارجية اليمني في سياق آخر: الممكنات مفتوحة.

لكن المملكة، مهما كانت حساباتها، لا تفكّر بعقلية ما يُسمّى "الشرعية اليمنية"، ولا تتحرّك بمنطقها ولا تُعيد توجيه سياساتها استجابةً لضغوط إعلامية تمارسها تنظيمات الإسلام السياسي وخلاياها، التي اعتادت خلط الضجيج والابتزاز السياسي بالحسابات الاستراتيجية.

الدول المركزية، في الواقع، لا تُبنى خياراتها على مواقف غاضبة، والسعودية دولة كبرى، تقرأ التوازنات قبل حشد البيانات، وتُراكم قراراتها ضمن ذاكرة أمنية طويلة تشكّلت عبر عقود من الاختبارات القاسية. ومصالحها، في هذا المعنى، ليست غامضة بل مفهومة في جوهرها: حماية المجال الحيوي، ومنع تشكّل التهديدات المركّبة، وضمان استقرار محيطها المباشر.

غير أن المسألة، في هذه اللحظة الحرجة تحديداً، لا تتعلّق بتعريف المصالح بقدر ما تتعلّق بالكيفية التي تُدار بها أدوات حمايتها، وبالوسائط التي يُعوَّل عليها لضمان الأمن المشترك. فالتجارب الحديثة، في الإقليم وخارجه، أثبتت أن الأمن لا يُصان عبر كيانات رمزية، ولا عبر ترتيبات هشة تُنتَج في المنفى، ولا عبر تكتل أحزاب معلقة في الهواء، لا وجود لها في الواقع أو تحالفات بلا أرض أو مجتمعات حاضنة.

في هذا السياق، لا يظهر الجنوب بوصفه ساحة فرعية أو ملفًا قابلاً للتجزئة أو للمقايضة، بل بوصفه وحدة جيوسياسية حيوية متصلة من أقصاه إلى أقصاه، تمثّل خط تماس مباشر مع حدود المملكة وأمن البحر، وسلامة الممرات، واستقرار العمق الإقليمي. إن ضمان وحدة الجنوب وأمنه ليس مطلباً سياسياً محلياً وحسب، ولا قضية هوية منعزلة عن محيطها، بل ضرورة استراتيجية لأمن المنطقة برمّتها.

أي أن الجنوب، ليس تفصيلاً في معادلة يمنية مأزومة، لأنه يمثل عقدة التوازن الإقليمي نفسها وحين يكون مستقراً ومحصّناً وقادراً على إدارة أرضه، يتحوّل من عبء محتمل إلى رافعة استقرار. أما حين يُترك عرضة للتفكيك أو لإعادة الهندسة القسرية، فإنه لا ينتج سوى فراغ مفتوح، والفراغ، كما أثبتت قوانين الجغرافيا السياسية، لا يبقى محايداً، بل يُستَثمر سريعًا من قبل القوى المعادية والمشاريع العابرة للحدود.

ومن هنا، فإن الرهان على الجنوب ليس مجازفة، بل قراءة واقعية لمنطق الأمن وموازين الاستقرار. والخطأ يكمن في تأجيل الاعتراف بهذه الحقيقة، أو محاولة الالتفاف عليها بمقاربات أثبت الزمن عجزها عن إنتاج واقع مستقر أو صيغة قابلة للحياة.