كتابات وآراء


الثلاثاء - 23 ديسمبر 2025 - الساعة 08:06 م

كُتب بواسطة : د. أحمد علي عبداللاه - ارشيف الكاتب


لم يتعامل الجنوب مع عملية استعادة دولته بوصفها شعاراً عاطفياً أو مناورة خطابية، بل باعتبارها مساراً تراكمياً قائماً على تهيئة موضوعية واضحة وحقائق راسخة على الأرض. لم يُخفِ هذا الهدف، ولم يُلبسه أثواب التمويه، ولم يساوم عليه بلغة رمادية أو تصريحات ملتبسة. والجميع، في الداخل والخارج، يدرك ذلك، ولعلها الحقيقة الأكثر تماسكاً بين سرديات أطراف ائتلاف “الشرعية”.

المفارقة تكمن في خطاب نخب “الشرعية” من سياسيين ودبلوماسيين وخطباء، أولئك الذين أتقنوا تقليب المفردات وفق المزاج والظرف، حتى غدت اللغة لديهم أداة مراوغة لا تعبيراً صريحاً عن موقف مسؤول من قضية كبرى بحجم القضية الجنوبية.

ستسمع منهم دائماً لازمة خطابية جاهزة: "للجنوب قضية عادلة ويجب حلها في إطار سياسي تفاوضي"، ثم يُلحقونها بعبارة "وفق المرجعيات"، في عملية تفريغ متعمدة للقضية من جوهرها. فالمرجعيات معروفة ومحددة، وفرضية التفاوض السياسي ليست سوى شعار لشراء الوقت، ريثما يُعاد ترميم التلاحم بين القوى الشمالية.

وهُم، من خلال تجربتهم العملية، يدركون أن لا إطار سياسي حقيقي، ولا حوار موضوعي وشامل، ولا حلول سلمية عادلة ستكون متاحة لا لقضية الجنوب ولا لقضايا اليمن.

وحين يخرج نائب وزير خارجية حكومة “الشرعية”، في ، لحظة تعبير مضطرب، ليقول إن الشرعية الوحدوية لابد أن تتحالف مع الحوثي ضد الجنوب (يعني الحرب)، فإن (لابد) هنا ليست فقط ابتزازاً لغوياً للمملكة وللجنوب، بل توصيفاً فاضحاً لسيناريو قائم ومجرَّب. هذا الاحتمال ليس جديداً على الوعي الجنوبي، ولا طارئاً في التاريخ اليمني الحديث.

أحد عشر عاماً وهم يتنقّلون بين العواصم، بينما تقلّصت حصة “الشرعية” من جغرافيا الشمال إلى حارات وشوارع محدودة، ولم يتبقَّ لهم سوى منصات إعلامية خارجية. فماذا يمكن أن يقدّموا للحوثي إن تحالفوا معه؟ وماذا يمكن أن يقدّم الحوثي لهم؟

لا شيء سيأخذونه من الحوثي سوى احتوائهم ثم التنكيل بهم، فهم في نظره وكما أعلنها مراراً وتكراراً، ليسوا أكثر من (مرتزقة)، والحوثي لا يلقي اهتمامه لفرضية أنّ (كل شيء وارد في السياسة). ومن لا يدرك ذلك فهو بحاجة إلى علاج، ولكن هذه المرة بالإبر الصينية لتنشيط طاقة الوعي.

لقد استوعب الجنوبيون بعد تجارب قاسية نوايا إخوتهم الشماليين، بما فيهم معكسر الحمائم، فهم يحدّثونك عن القيم الانسانية والمدنية والديمقراطية، وعن قيم السماء والأرض مجتمعة، لكن جميعها تتهاوى واحدة تلو الآخرى حين يصل النقاش إلى قضية الجنوب. هناك، تسقط الأقنعة، وتنكشف الحقيقة الصلبة: الجنوب ليس قضية شعب عندهم، بل معضلة ينبغي تعطيلها أو كسرها.

فمفهوم “الوحدة” عند هؤلاء هو تعريف شمالي ثابت، فُرض عام 1994 بعد ما سُمّي بـ"ألف ساعة حرب" أو "ملحمة حرب الوحدة". فالوحدة تعني لهم اخضاع الآخر بالقوة، بالحرب، بتدمير الشريك، بكسر إرادته، وبالاستيلاء على أرضه… الخ، ولا شيء خارج هذا التعريف. كما لا يمنع، في منطقهم، من تكرار التجربة ذاتها: ألف ساعة حرب جديدة، بالتحالفات مع الحوثي هذه المرة، وبالعداء ذاته، ولكن بالتأكيد ليست بالنتائج ذاتها، فالجنوب اليوم ليس كما كان عشية 27 أبريل عام 94.

لكن الأهم هنا بأن الصراع لم يعد صراع تأويلات أو خطابات، بل صراع ذاكرة وتجربة. والجنوب، الذي قرأ الدرس كاملًا، يدرك أن أي “ألف ساعة حرب” جديدة لن تُنتج وحدة جديدة بل ستُرسّخ في الوجدان الجنوبي قطيعة أطول وأعمق، لألف عام قادم.