كتابات وآراء


الثلاثاء - 09 ديسمبر 2025 - الساعة 05:18 م

كُتب بواسطة : خالد اليماني - ارشيف الكاتب


تتعامل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة مع مستقبل الجنوب باعتباره جزءاً من منظومة أمنية يمنية وإقليمية ودولية. وهما تدركان أن أي تغيير في شكل الدولة اليمنية وحكومتها المعترف بها دولياً لن يكتسب الشرعية إلا بتوافق تقوده العواصم الكبرى، وفي مقدمتها الرياض وأبوظبي وواشنطن ولندن، وربما بقية الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن: باريس وموسكو وبيجين.

انطلاقاً من هذه الرؤية، تعمل الرياض وأبوظبي على هندسة انتقال سياسي متدرج ومدروس، جنوباً وشمالاً، بما يضمن استقرار الإقليم ويحمي مصالحهما الوطنية، من دون أن يظهر الأمر وكأنه خروج عن دورهما السابق الذي قام التحالف في اليمن من أجله.

حتى تشكيل مجلس القيادة الرئاسي بالمناصفة بين الشمال والجنوب، وهي خطوة عززت موقع المجلس الانتقالي الجنوبي ومنحته أولوية في القرار، جاء نتيجة قناعة راسخة لدى الرياض وأبوظبي بأن الجنوب أكثر استقراراً وتنظيماً، مقابل شمال تتجاذبه أطراف متناحرة: الحوثي بأجندته الإيرانية من جهة، والإخوان بأجندة الإرهاب من جهة أخرى، وما يرافق ذلك من محاولات لإدخال التحالف في مأزق وجودي داخل اليمن.

يمتلك المجلس الانتقالي سلطة فعلية على الأرض، لكنه يفتقر إلى أدوات الاعتراف الدولي. فبناء دولة جديدة يحتاج إلى ترتيبات مؤسسية سميتها سابقاً “إجراءات التمكين عبر الإدارة الذاتية”، وهذه لا تتحقق بقرار سياسي متسرع، وإنما – كما يشير فخامة الرئيس عيدروس الزبيدي – عبر سياسة “الخطوة خطوة” ومسار تفاوضي توافقي.

وعلى هذا الأساس، يدير فخامة الرئيس تفاصيل هذا الملف المعقد ضمن رؤية المجلس الانتقالي لنيل فك الارتباط وصولاً إلى الاستقلال، وبما يتلائم مع توجهات التحالف بقيادة السعودية والإمارات، ومن دون الإضرار بالشركاء في الشمال.

في المقابل، يراقب الحوثي المشهد بصمت، آملاً أن يستثمر أي خطوة جنوبية متعجلة ليعيد تقديم نفسه للعالم باعتباره “حامي حمئ وحدة اليمن”، وهو ما سيمنح إيران فرصة لإعادة تدوير نفوذها. ولهذا تتحرك السعودية والإمارات بحذر لتجنب منحه هذه الورقة المجانية. كما بدأت أجهزة الإخوان منذ الأمس تفعيل خطاب تحريضي بالدعوة لاجتياح الجنوب بحجة “تحريره من الانفصاليين” قبل التوجه لتحرير صنعاء، في رسالة ابتزاز للرياض وأبوظبي مضمونها: “عليّ وعلى أعدائي”.

أما واشنطن، فتنظر إلى جنوب اليمن من زاوية الأمن البحري ومكافحة الإرهاب وقطع الإمدادات الإيرانية للحوثيين. ومن هذه المقاربة فإن تمدد المجلس الانتقالي على كامل الجغرافيا الجنوبية يخدم هدف الاستقرار الإقليمي ويعزز موقف الحكومة المعترف بها دولياً.

ومن ثم، فإن قيام دولة جنوبية لا يشكل إشكالية لواشنطن، وإنما الإشكالية تكمن في توقيت وشكل إعلانها؛ فالتحول غير المنظم قد يربك الوضع الإقليمي ويوفر لطهران مساحة نفوذ إضافية، ويضعف قدرة الولايات المتحدة على إدارة الأمن في البحر الأحمر وخليج عدن. أما بريطانيا والإمارات فتنظران بإيجابية لأي صيغة تحقق استقراراً جنوبياً، لكنهما تتفقان على ضرورة وجود غطاء قانوني يثبت شرعية العملية الانتقالية ويمنع تحول الجنوب إلى بؤرة توتر جديدة.

التدرج إذن هو المقاربة التي تعتمدها الرياض وأبوظبي والمجلس الانتقالي الجنوبي لحلحلة المعضلة اليمنية: من جهة مواصلة الجهود لجلب الحوثيين إلى مسار تفاوضي، ومن جهة أخرى القبول بانتقال منظم لوضع الجنوب الحالي نحو إدارة ذاتية أكثر اتساعاً وصولاً إلى الاستقلال الناجز.

نجاح المشروع الجنوبي لا يتحقق برمزية السيطرة على الأرض فحسب، بل يتطلب إدارة ذاتية موسعة يعقبها توافقات سياسية محلية وإقليمية ودولية، تضمن ولادة دولة معترف بها قادرة على إدارة مواردها وحدودها. والفرصة متاحة، لكنها مشروطة بتنسيق دقيق مع السعودية والإمارات وتجنب أي خطوة تمنح الحوثيين وإيران والإخوان تفوقاً خطابياً في سردية “الحفاظ على الوحدة” التي ماتت ولم يبق إلا إعلان وفاتها.

إنه نداء لفهم إدارة الرئيس القائد عيدروس الزبيدي للملف الجنوبي؛ فهو يدرك أهمية احتواء الخطاب التصعيدي لدى بعض أعضاء مجلس القيادة الرئاسي، الذين يطالبون بعودة الألوية الشمالية إلى الجنوب، بينما المطلوب هو الحشد نحو صنعاء، العدو الحقيقي. وقد أعلن المجلس الانتقالي مرارا استعداده للإسهام في ذلك إن صدقت النوايا.

إنها أيام عصيبة، لكن ثقتنا بقيادتنا الحكيمة ممثلة بالمجلس الانتقالي الجنوبي وفخامة الرئيس عيدروس الزبيدي، وبإخواننا في السعودية والإمارات، ثابتة لا تتزحزح؛ فهم لن يتركوا تضحيات شعب الجنوب وتطلعه للاستقلال تذهب سدى.

السفير خالد حسين اليماني
وزير الخارجية الأسبق