الأحد - 20 يوليو 2025 - الساعة 03:10 م
دخلت الأزمة اليمنية طورًا بالغ الركود، عالقًا بين وهم الحرب وسراب السلام، حيثُ المعاركُ لم تُحسَم، والسلامُ لم يُولد، فلا الحسم العسكري بات خيارًا واقعيًا، ولا التسوية السياسية نضجت شروطها. في ضل هذة الضروف، يظلُّ الجنوبُ في وضعٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ خطير، يدفع ثمنه وحده، بينما يقف الآخرون على الضفة الأخرى من النار، يراقبون ولا يتحركون ،فمنذ تحرير عدن، مرّت عشر سنوات، ولم يجرؤ أحد على استعادة صنعاء، لا حربًا ولا سلمًا، فيما اكتفى مَن يُسمّون أنفسهم بـ"الشرعية" بالبقاء في مربع المصالح، يتقافزون بين المناصب، ويبتكرون الأزمات، لا لمواجهة الحوثي في الشمال، بل لإرهاق الجنوب المُحرَّر، وابتزاز شعبه، وكسر إرادته.
إن مجلس القيادة الرئاسي، الذي سُوِّق له ذات يوم كفجرٍ مرتقب في ليل الأزمة الحالِك، وتعلّقت به آمال شعبٍ أنهكته الانتظارات، ما لبث أن انكشف كقناعٍ براقٍ يخفي وراءه تقاسم النفوذ ووأد وتعطيل أي مشروع وطني حقيقي، بل وتحويل الجنوب إلى ساحة صراع اقتصادي ومعيشي ممنهج، يُغذي الاحتقان الشعبي ويُعمّق الإحباط، في وقتٍ تُرك فيه الحوثي يعيد ترتيب أوراقه، ويخنق الاقتصاد، وكان آخرها طباعته للعملة الجديدة، بينما صمتت الشرعية صمتَ العاجز أو المتواطئ، دون أن تُنفذ أي إجراءٍ سيادي، أو حتى تتحرك رمزيًا ضد تلك المليشيا الانقلابية.
ليس السؤال اليوم: ماذا تفعل الشرعية؟ بل السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه بإلحاح هو: ماذا يجب على المجلس الانتقالي الجنوبي أن يفعل في هذه المرحلة الدقيقة؟ لقد وصل الجنوب إلى لحظةٍ فارقة، لم تعد تحتمل المجاملات السياسية ولا الانتظار العبثي، فالمعادلة القائمة تآكلت شرعيتها، والتحالفات استُنفدت مضامينها، وأصبحت أعباءً أكثر من كونها أدوات حلول. وفي خضم هذا الواقع المأزوم، يُحاصر الجنوب اقتصاديًا بشكلٍ ممنهج، تحت أنظار إقليميةٍ صامتة، ومواقف دولية متواطئة لا ترى في معاناة الشعوب إلا أرقامًا هامشية في تقارير باردة.
في هذا السياق، لم يعد مقبولًا أن يظل المجلس الانتقالي مجرد طرف ضمن مشهد سياسيٍّ مهترئ، بل بات لزامًا عليه أن يتحرك بصفته قيادة الأمر الواقع، والمعبر عن الإرادة الشعبية الجنوبية، وأن يرتقي إلى مستوى التحدي بما يتناسب مع التفويض الشعبي الذي يحمله على عاتقه. وهذا يقتضي أولًا إعلان حالة طوارئ اقتصادية جنوبية تُحشَد فيها كل الإمكانات والطاقات لمواجهة الانهيار المعيشي المتعمَّد، فالانتظار حتى تُفرج الحكومة عن الرواتب أو تقدم ما تيسر من الدعم، ليس سوى وهمٍ قاتل، خاصةً وأن الجنوب يملك من الموارد والثروات ما يكفيه، لو وُجدت الإرادة السياسية، وكُسرت أغلال المركزية.
وفي الوقت ذاته، لا بد من الإسراع في بناء مؤسسات الدولة الجنوبية بوصفها أمرًا واقعًا لا خيارًا مستقبليًا. لقد أثبتت التجربة أن التعايش مع قوى الشمال مشروعٌ فاشل، وأن هذه القوى لا تؤمن إلا بالهيمنة والمركزية المدمِّرة، ما يجعل استمرار الرهان على شراكةٍ وهمية مضيعةً للوقت وفرص النجاة. وعلى خطٍ موازٍ، يجب أن يتحرك المجلس دبلوماسيًا بشجاعةٍ ووضوح، لإيصال صوت الجنوب إلى المحافل الدولية والإقليمية، ليس بلغة الشكوى والرجاء، بل بلغة الحق السيادي، والمشروع السياسي المتكامل، القائم على تضحيات طويلة، وتطلعات مشروعة لشعبٍ يريد استعادة دولته وكرامته.
ويبقى العنصر الأهم في هذه المعادلة هو التواصل الحقيقي مع الشارع الجنوبي، لا عبر الخطب الموسمية أو رسائل المجاملة، بل من خلال النزول إلى الميدان، والاقتراب من هموم الناس، وإدارة المرحلة بشفافية ومسؤولية. فالشعوب لا تنتظر قيادةً تُدير الأزمات من خلف المكاتب، بل من يشاركها الألم، ويحمل معها أعباء الواقع، ويصنع الأمل. إنها لحظةُ العمل، لا الترقب، لحظةُ الفعل، لا ردة الفعل. فالجنوب يحتاج إلى قيادةٍ تفكر بمستوى قضيته، وتتحرك بحجم تضحياته، وتصوغ مشروعه الوطني بوعيٍ سياسي وشجاعةٍ تاريخية. لقد تعب الجنوب من سياسة الانتظار، وحان وقت القرار.
وفي ظلّ هذه اللحظة التاريخية، فإن عودة الرئيس الزُبيدي إلى عدن، باعتقادي، لم تكن مجرد خطوةٍ سياسية، بل موقفًا أخلاقيًا، يرمز إلى أن القيادة يجب أن تكون بين شعبها، حين يشتدّ الخطر، وتتعاظم المسؤولية. فالجنوب اليوم لا يملك رفاهية الانتظار، ولا ترف الرهان على شرعيةٍ مشلولة. بل إن المطلوب من المجلس الانتقالي في هذه المرحلة أن يرتقي إلى مستوى التحدي، لا بوصفه فصيلًا سياسيًا، بل كقيادة وطنية مسؤولة عن كيانٍ كامل، عن شعبٍ ينزف بصمت، ويغلي في الأعماق.
إنها لحظةٌ مفصلية، تستدعي من الانتقالي أن يتحرك كقيادةٍ لإدارة الجنوب بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وأن يتقدم الصفوف بقراراتٍ جريئة، تستعيد زمام المبادرة، وتكسر طوق الارتهان، وتُبني مؤسسات الدولة الجنوبية بإرادةٍ لا تعرف التردد، وبمنهجٍ لا يخضع للإملاءات، ولا يُهادن الفشل. كما أن الجنوب بحاجةٍ اليوم إلى قيادةٍ تشاركه الجوع والغضب، لا تُدير أزمته من فوق، بل تعيشها معه، وتواجهها بصدق، لا بمؤتمرات ، لقد تعب الشعب من انتظار الحلول المؤجلة، ومن لعبة المواقف الرمادية، ومن "سياسة الممكن" التي لا تُنتج سوى المزيد من الانهيار. وحين يشتدّ الخناق، لا مفرّ من المواجهة، لا بالسلاح وحده، بل بالرؤية، بالبناء، بالبديل الحقيقي.
إنني هنا لا أُخفي قناعتي ،إن الجنوب أمام فرصةٍ حقيقية ليصنع مصيره بيده، بعيدًا عن حسابات الخارج وضغوط الداخل. فإما أن يُثبت المجلس الانتقالي أنه على قدر الثقة الشعبية، وأنه قادر على تحويل مشروع التحرير إلى مشروع بناء، وإما أن نغرق جميعًا في العبث، ونكتب على أنقاض عدن: "من هنا مرّت ثورة ولم تُكمل الطريق". ومن هنا، فإن الجنوب لا يحتاج إلى توصيف الألم، بل إلى قرار شجاع، إلى تحركٍ يبدأ من عمق الأرض، لا من هوامش السياسة. فالوقت لا ينتظر أحدًا، والتاريخ لا يرحم المترددين، ومن لم يكن على قدر لحظته، ستمضي اللحظة دونه، ويُكتب اسمه في الهامش، لا في العنوان.
إن المجلس الانتقالي الجنوبي، بقيادة الرئيس القائد عيدروس الزُبيدي، أمام لحظةٍ مفصلية، لا مجال فيها للحياد، ولا مكان فيها للارتباك. فالخصم واضح، والميدان مكشوف، والشعب يعرف جيدًا من معه ومن عليه. ولذلك، فإن الرهان الآن لم يعد على الشرعية، بل على إرادة الجنوب، وعلى قيادته أن تُثبت أنها على قدر هذا الرهان.