كتابات وآراء


الإثنين - 14 يوليو 2025 - الساعة 07:27 م

كُتب بواسطة : د. عيدروس نصر - ارشيف الكاتب


لقد أُغرِق العقل السياسي والفكري الجنوبي في بحر التحديات والمعضلات الحياتية اليومية التي تحولت إلى مسلسل من الجحيم يكتوي بعذاباته المواطن الجنوبي آناء الليل وأطراف النهار، وغدا مجرد الحديث عن القضايا السياسية والوطنية والمستقبلية الجنوبية يمثل ترفاً سياسياً وتعالياً على عذابات الناس ومعاناتهم اليومية مع الحروب المعلنة التي تشعلها عليهم قوى "الشرعية" بجميع أجنحتها.
بيد إن كل هذا لا يمنعنا من التوقف بين حين وآخر للتذكير بجوهر ولب القضية الجنوبية، التي ليست تلك الحروب بمنأى عنها بل إنها (هذه القضية) هي المستهدف الأساسي من الحروب المعلنة التي يشعلها المتحكمين في الجنوب على الجنوب وأهله.
كان كاتب هذه السطور قد تعرض أكثر من مرة لحقيقة مهمة وهي أن مفردتي "وحدة اليمن" و"استقراره" لا يمكن الجمع بينهما في جملة واحدة، لأن (الوحدة) التي يتحدث عنها الكتاب والسياسيون والإعلاميون، وحتى بعض الدبلوماسيين من الأشقاء والأصدقاء، قد برهنت وقائع الحياة على مدى أكثر من ثلاثة عقود أنها لا تصنع استقراراً؛ كما برهنت صيرورة أحداث الحياة على مدى كل تلك السنوات أن الاستقرار لا يجتمع مع (الوحدة) من النوع الذي جرى خلال الثلاثة عقود المنصرمة حتى يوم الناس هذا.
حينما كانت الجمهوريتان اللتان اتحدتا عشوائياً وارتجالاً في العام 1990م ثم تحاربتا عام 1994م - حينما كانتا قائمتين - كدولتين شقيقتين جارتين متعاونتين في كثير من الأحيان، كانتا شبه مستقرتين وكانت الاضطرابات وحتى المواجهات الحدودية التي تحصل هنا أو هناك تأخذ بعض الأيام وأحياناً بعض الأسابيع ثم تزول ويعود (الاستقرار) إلى الدولتين؛ أما بعد ما سمي بـ"الوحدة اليمنية" في العام في العام 1990م فقد تأكَّد للجميع يقيناً أنه من المستحيل أن يظل اليمن مستقراً، طالما بقيت الحرب هي الأداة والوسيلة الوحيدة لاستبقاء الحاكم على هيمنته على من سيرفض شكل الحكم وطريقة إدارته للبلد وأهله، ذلك لأن هذه "الوحدة" تقوم على الاستقواء والإكراه وثقافة السلب والنهب وثنائيات "الأصل والفرع" و"المنتصر والمهزوم" و"القوي والضعيف" و"السالب والمسلوب" والناهب والمنهوب" و"المتبوع والتابع"، ولكل هذا لا يمكن لـ"وحدةٍ" من هذا النوع أن تدوم إلَّا مصحوبةً بــ"عدم الاستقرار" ولا يمكن لـ"الاستقرار" أن يتحقق إلَّا بإنهاء "وحدةٍ" كهذه القائمة اليوم، إذا كانت أصلاً ما تزال قائمة.
اليوم وبعد مرور 31 عاماً على حرب الغزو العسكري للجنوب يتأكد مرةً تلو أُخرى أن "وحدة اليمن" التي كانت حلماً جميلاً ذات زمنٍ من الأزمنة، كانت مجرد حلمٍ لقوى وجماعات اجتماعية، لم تكن هي من خَطَّطَ ورَسَمَ وحدَّدَ ملامح ما جرى في العام 1990م، وما تلى ذلك العام (النكسة) من تداعيات لاحقة أدَّت إلى ما أدَّت إليه من الدمار والخراب والنزاعات والحروب والاضمحلال والتلاشي لملامح الدولة في الدولتين السابقتين، وتأكد تماماً أن عنصري ثنائية (الوحدة والاستقرار) لا تجتمعان ولا يمكن أن تجتمعا.
(اليمن) المصنَّع على عجل في العام 1990م يعيش اليوم وضع الدولتين الحقيقيتين، بعاصمتين وحكومتين، ومجلسين سياسيين وبرلمانين ورئيسين وبنكين وعملتين وكل ما يدل على الدولتين، لكن القائمين على المشهد السياسي لا يريدون الاعتراف بهذه الحقيقة الواضحة لكل ذي عينين، أو حتى ذي عينٍ واحدة.
الحالمون بتكرار المشهد الذي ذوى وتوارى بفعل تآكل عوامل بقائه، وبعد أن رفض المشهد ذاته أن يواصل نفسه؛ لا يفعلون سوى ما أشار إليه عبقري الفيزياء وصاحب نظرية النسبية، ألبرت آينشتاين؛ عند ما قال "إن محاولة تكرار فعل الشيء نفسه، وبالوسائل نفسها، أكثر من مرة وانتظار نتائج مختلفة عن تلك التي حصلت في المرة الأولى، إنما يعبِّر عن غباء مطلق لدى صاحبه".
انهم يحاولون مرةً أخرى أن يقولوا لنا إنهم سيعيدون تكرار تجربه 1990 التي لم تمضِ سنةً واحدةً حتى كانت عوامل انهيارها تتخلق وتنمو وتكبر وتتسع لتبلغ مداها في العام 1994 وما تلاه من تداعيات مدمرة أوصلت اليمن بدولتيها وشعبيها السابقين إلى ما هما عليه اليوم من خراب ودمار واحتراب ومجاعة وانهيار وفقدان السيادة وكل أنواع الآلام والعذابات التي يعيشها المواطنون، في الدولتين والشعبين الشقيقين.
محاوله تكرار مشهد 1994 بنفس الأدوات وبنفس العقليات لا يعبر إلا عن ضيق أفق سياسي وانعدام الابداع الفكري والسياسي والتحسُّس من الاعتراف بالحقيقة التي يعيشها ويلمسها الجميع، فـ"الوحدة اليمنية" انهارت وانتهت وفشلت وهي لن تعود بكل تأكيد، وليس هذا الكلام أي انتقاص من حق أحد أو استفزاز لأحد أو شتيمةٍ لأحد، كما ليس فيه أي شطح فكري أو نَزَقٍ سياسيٍ، ببساطة لأن الوحدة التي حلم بها البسطاء والشرفاء من المواطنين ومن السياسيين والمفكرين والمثقفين لم تتحقَّقْ ولن تتحقَّقَ، وكل ما تطرحه الطبقة السياسية المتحكمة في المشهد السياسي في الدولتين (السابقتين-الراهنتين) لا تمت بصلة لأي ملمح من ملامح المستقبل، وكل ما تقدمه تلك الطبقة السياسية من عبارات ناعمة كنعومة جلد الأفعى، لا تعبر إلَّا عن طموح من أفسدوا الماضي وفخخوا الحاضر في استمرار سياسات الإفساد والتفخيخ للمستقبل، ولا هم لهم بحياة الشعبين ومستقبل أجيالهما في حياة حرة كريمة آمنة راقية ومزدهرة.
وخلاصة القول: لمن يريد (الاستقرار) عليه أن يقتنع بالاعتراف بوضع الدولتين والسعي لجعله قراراً رسمياً باتفاق الشعبين ومباركة الإقليم والعالم، ومن يصمم على أن ما هو قائم اليوم هو "وحدة يمنية راسخة رسوخ الجبال" عليه أن يتوقف عن الحديث عن الاستقرار ومعه الحديث عن التنمية والرخاء والازدهار والتقدم والحرية والكرامة، فكل هذه المفاهيم ليس لها مكانٌ في ما تسمونه "الوحدة اليمنية".