كتابات وآراء


الخميس - 09 يونيو 2022 - الساعة 06:58 م

كُتب بواسطة : د. عيدروس نصر - ارشيف الكاتب


حتى لا ينخدع الجنوبيون للمرة الخامسة (4)

لم تتوقف نتائج الخديعة الثالثة التي تعرض لها الجنوب والجنوبيون عند اختطاف الانتصار وتحويله إلى منجز للهاربين ومعهم من وقف مصفقا للصرخة في ميدان السبعين خلف الزعيم وجماعة الحوثي، ولا على استبعاد رجال المعارك وصناع الانتصارات وقادة السياسة والإدارة الناجحين وتحويلهم إلى أعداء معلنين، بل لقد تحولت هذه الخديعة إلى حرب معلنة وليست سرية ضد الجنوب كل الجنوب، حرب لم تقتصر على سياسات التجويع وحروب الخدمات، بل امتدت إلى حالة الغزو العسكري المعلن، والذي كانت قصة "غزوة خيبر" المعروفة تلخيصا مكثفا له، واستحضاراً وقحاً لثقافة الغزو والاجتياح وتلخيصا لفتوى "حرب المسلمين على الكفار" التي بدأ الإعداد لها منذ نهاية السبعينات وخلال الثمانينات ولم تتوقف عند غزوة 1994م البغيضة وما بعدها.
وهكذا تحول الانتصار الجنوبي الذي صنعه الشهداء الأماجد والمقاتلون الأبطال، من كل فئات الشعب الجنوبي تحول إلى حرب وحصار على كل الجنوب والجنوبيين، وبدأت حرب الخدمات وسياسات التجويع كجزء من هذه الحرب.
وعندما بادر الأشقاء في المملكة العربية السعودية بالدعوة إلى حوار الرياض، كان الطرف الآخر المقيم قادته وأساطينه أصلا في الرياض، قد بدأ بالإعداد للخديعة الجديدة، فبينما كان الفريق الجنوبي الذي رأسه الأخ اللواء عيدروس الزبيدي رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، قد ذهب إلى الرياض بنِيَّةٍ خالصةٍ لغرض وقف المواجهة العسكرية وصيانة الدماء والأرواح، وإنهاء حرب الخدمات وسياسات التجويع ضد أبناء الجنوب، كان الطرف الآخر يبحث عن خديعة جديدة لاستكمال سرقة النصر الجنوبي والإجهاز على أي شيء له صلة بالقضية الجنوبية.
وكما يعلم الجميع فإن هذا الطرف لم يسافر إلى الرياض بالطائرات أو السفن أو القطارات، بل لقد كان ممثلوه لا ينتقلون إلا من غرفة النوم إلى صالات اللقاءت في نفس الفندق أو أحد الفنادق المجاورة، بينما ترك ممثلو المجلس الانتقالي أشغالهم ومهماتهم وعطلوا أعمالهم أملاً في حل سريع ينهي الحصار والحرب ويحفظ دماء وأرواح المتقاتلين.
وهكذا جاء اتفاق الريًاض بالصيغة التي عرفها الجميع بحسناته ومساوئه ليمثل نتيجةً باهتةً لثلاثة أشهر من الحوارات والمداولات المطولة والمملة.
أين تكمن الخديعة؟
_______
لم تكن المشكلة في الاتفاق ذاته كوثيقة وكبنود، ولكن كعادة الأشقاء، ومؤيديهم من القلة الجنوبية، ومعظمهم ممن أكلوا على جميع الموائد السياسية، إنهم كما قلت في البداية يتعمدون حشو المعاهدات والاتفاقات بمفردات زئبقية تقبل مئات التفسيرات، فيختارون من التفسيرات ما يناسب الخديعة التي أعدوها سلفا.ً
فالملحق الأمني والعسكري مثلا الذي أقاموا الدنيا عليه ولم يقعدوها، ينص على في مجموعة من المهمات، يتركز معظمها في إعادة القوات القادمة إلى أبين وشبوة وعدن إلى مواقعها السابقة، وتوحيد الجهد العسكري والأمني، وتوجيهه نحو المعركة مع الحوثي من أجل تحرير صنعاء، لكنهم كانوا أشطر، فقد سلموا الحوثي محافظات الجوف ومأرب والبيضا في أقل من ثلاثة أشهر وأوصلوه إلى مديريات بيحان الثلاث، ولم يتخلوا عن دمج القوات الجنوبية تحت قيادتهم المحترفة في صناعة الهزائم، وضمن قواتهم التي كانت تتنازل عن أربع وخمس مديريات في اليوم الواحد للجماعة الحوثية.
وكانهم يريدون أن يقولوا: اعطونا القوات الجنوبية الباسلة التي صنعت انتصار 2015م لتساعدنا على تسليم محافظات الجنوب للحوثيين.
وحتى قوات ما عُرف بـ"حراس الجمهورية" في مناطق الساحل الغربي، والتي تسلمتها من المقاومة الجنوبية والتهامية وهي على مشارف مدينة الحديدة، قامت تلك القوات بتسليم عدد من المديريات التي حررها المقاومون التهاميون والجنوبيون، قامت بتسليمها للحليف السابق (الحوثي) تحت حجة "إعادة التموضع" التي لا يفهمها حتى الضالعين في علوم العسكرية والتكتيك العسكري.
وباختصار لقد جرى استخدام اتفاق الرياض كخديعة أريد منها تنفيذ هدفين:
1. الهدف الأول إخضاع القوات الجنوبية الأمنية والعسكرية للقيادات الشمالية التي سلمت مأرب والجوف والبيضاء وقبلها كل البلاد للجماعة الحوثية وإدخالها (أي القوات الجنوبية) في معركة غير مكافئة مع الحوثيين تكون نتيجتها المحققة القضاء على القوات الجنوبية ومن ثم دفن القضية الجنوبية التي لا يعود لها أفق بدون قوات المقاومة الجنوبية بشقيها الأمني والعسكري.
هذا اقل الافتراضات لؤما، أما أسوأها فهو استكمال تدمير تلك القوات، بأية وسيلة غادرة كما جرى مع قادة وأفراد لواء الحرس الرئاسي الجنوبية الذين تركهم الأشقاء للصلاة وحدهم في أحد مساجد مأرب ثم جرى تفجير المسجد ليموتوا عن قاطبتهم دون أن تسيل معهم قطرة دم واحدة من "الجيش الوطني البطل".
2. تفريغ الساحة الجنوبية من قواتها الأمنية والعسكرية لتمكين القوات الحوثية من دخول الجنوب عن طريق الضالع ومكيراس ويافع، و"الجيش الوطني" الهارب عن طريق شبوة- أبين وتعز- لحج، ودفن أي مسمى للقضية الجنوبية وقتل حلم الجنوبيين الذي ضحوا من أجله بعشرات الآلاف من الشهداء وأضعافهم من الجرحى ، وبعدها كما يقول الأشقاء، "نتفاهم"، "وما فيش بين الإخوان حساب".
لقد أُبطِل مفعول هذه الخدعة بأسباب وعوامل كثيرة لعل أهمها أن الذين يطالبون بتولي قيادة القوات الجنوبية صانعة الانتصارات هم من أكثر القادة تفوقاً في صناعة الهزائم، كما جاءت فضيحة تسليم بيحان من قبل قوات "الجيش الوطني المغوار" ثم تحريرها بعد ذلك على أيدي قوات العمالقة الجنوبية خلال أقل من أسبوعين لتثبت أن المتلهفين لوضع القوات الجنوبية تحت قيادتهم هم أقل أهلية لتحرير قرية أو حارة في مدينة، وأن مكانهم المناسب هو قاعات المحكمة العسكرية بتهمة الخيانة الوطنية، وليس قيادة القوات الجنوبية التي لا تعرف إلا صناعة الانتصارات.
إن إبطال مفعول هذه الخديعة لا يعني نهايتها ففواعلها وأفخاخها الرئيسية قد انتقلت إلى وثيقة مشاورات الرياض، والمتلهفون لتنفيذها ما يزالون يتصدرون المشهد في التركيبة السياسية الجديدة التي تزامنت مع المشاورات.
وهذا ما سنتناوله في وقفة قادمة.

----------

حتى لا يخدع الجنوبيون للمرة الخامسة (5)

حينما دعا الأشقاء في قيادة مجلس التعاون لدول الخليج العربي لما أسموه بـ"مؤتمر مشاورات الرياض اليمنية-اليمنية" كان واضحاً أن الهدف من المشاورات هو البحث عن حل لأزمة ثنائية "الشرعية-الانقلاب"، وإنهاء الحرب ومحاولة إرساء سلام قابل للاستدامة بعد أن خيب القائمون على "الشرعية" اليمينة كل الرهانات التي عُلِّقَت عليهم في هزيمة المشروع الانقلابي.
ولم تكن مصادفةً أن يتزامن افتتاح أعمال مؤتمر المشاورات مع إعلان الهدنة بين دول التحالف وجماعة الحوثي وما ترتب عليها من مكاسب حققها الطرف الحوثي الذي رفض المشاركة في أعمال المؤتمر وبالمقابل لم يقدم أي تنازل مقابل تلك المكاسب التي ما يزال يجني ثمارها حتى اللحظة
وهكذا وقبل الاسترسال في الحديث عن مشاورات الرياض نشير إلى أن المشكلة اليمنية لها وجوه وزوايا متعدد غالباً ما تَغِيبُ أو تُغَيَّبُ عمداً عند البحث عن حلول لهذه الأزمة، ويجري التركيز على حل مشكلة النزاع بين الشرعية والحوثيين، دون صناعة ضمانات مستقبلية لخلق حالة من السلام الدائم والاستقرار والتنمية لزمن أطول مثلما في كل بلدان العالم.
فبمجرد إلقاء نظرة على التشكيلة التي جاء بها المجلس الرئاسي يتبين لنا أن الأشقاء يحاولون لملمة صفوف من لا تتلملم صفوفهم، حيث اللوحة الراهنة تبين أن ما جرى من تشكيلة للمجلس الرئاسي لا يختلف عن التوليفة التي تمت في العام 2012م بموجب المبادرة الخليجية، حينما اعتقد الأشقاء المبادرون أن جمع النقائض في وعاء واحد سيلغي التناقض بينما جرى العكس حيث حاول كل من هذه النقائض الاستئثار بالكعكة كاملة فكانت النتيجة ما جرى في العام 2014- وما يزال مستمرا حتى اليوم.
ومع كل التقدير لكل الجهود الطيبة والنوايا الحسنة للأشقاء في مجلس التعاون الخليجي فإن المحصلة التي أرادوها والمخرجات التي خططوا لها ثم أعلنوا عنها بنهاية المشاورات، لم تخرج عن محاولة لم شمل أطراف أجنداتها مختلفة ومتناقضة، وهذا ما يجعل إمكانية نجاح المخرجات موضوعا يخضع لعدة افتراضات متباينة ومتناقضة ومن بينها افتراض الفشل والإخفاق.
ما يهمنا هنا هو ما يتعلق بالقضية الجنوبية، فعندما وجهت الدعوة من قبل الأشقاء لعقد مشاورات الرياض كنت قد كتبت مطالبا المجلس الانتقالي الجنوبي ثم مؤيدا لقراره المشاركة في هذه المشاورات، واقترحت على الزملاء في قيادة المجلس أن يعدوا رؤيتهم لما ينبغي أن تتوقف عنده المشاورات بشأن القضية الجنوبية، وأن تشمل الرؤية تلخيصاً لما يعرفه القاصي والداني عن مطالب الشعب الجنوبي، وبالمقابل تصور الجنوبيين لحل المشكلة الشمالية، وكيفية استعادة أو بناء دولة شمالية قابلة للديمومة والسلام والتنمية، فمن مصلحة الشعبين وجود دولتين جارتين مستقرتين، وليس من مصلحتنا كجنوبيين استمرار الحرب في أراضي الشمال أو تفرد طرف وحيد دون سواه بالحكم سواء بحجة الوصاية الإلهية السلالية الزائفة أو تحت ما يسمى دولة الخلافة الإسلامية الراشدة، أو حتى تفرد حزب واحد وحيد بالحكم تحت أي مبرر، وبطبيعة الحال ما ينطبق على الشمال ينطبق على الجنوب، مع فارق أنه لا يوجد في الجنوب من يدعي أنهُ وريث رسول الله أو أنه وريث لدولة الخلفاء الراشدين.
هل يمكن أن تغدو نتائج مشاورات الرياض فخاً جديدا للجنوب وتطلعات شعب الجنوب، أو أن تصنع بيئةً جديدةً لخديعة خامسة ضد الجنوب والجنوبيين وقضيتهم العادلة؟
ذلك ما سنتوقف عنده في حلقة قادمة.
والله ولي الهداية والتوفيق

----------

حتى لا يُخْدَعَ الجنوبيون للمرة الخامسة (6)

قبل مواصلة الحديث عن نتائج مشاورات الرياض لا بد من التعقيب على بعض التعليقات التي انتقدت ظاهرة عدم تعلم الجنوبيين من كثرة الخدائع التي تعرضوا لها على يد الشريك السلطوي الشمالي.
إن مناقشة هذا الأمر تستدعي وقفة تقييمية لكامل التجربة التي مرت بها العلاقة بين الشعبين والدولتين في هذا الإقليم من العالم، وهو أمر يطول الحديث فيه، لكن ما ينبغي فهمه وإدراكه جيداً هنا، هو حالة عدم التوازن بين طرفي الصراع حول القضية الجنوبية.
ومع عدم التقليل من أشكال الرفض السياسي لنتائج الحرب البغيضة، خلال العقد والنصف السابقين، لكن مقابل المقاومة الجنوبية السلمية الشعبية العارمة غابت الأداة السياسية التي تمتلك برنامجَ واضحاً، ومضامين مدروسة وممؤسسة من الأهداف الاستراتيجية والوسائل التكتيكية.
ومع كل التقدير والاحترام للأدوار المميزة التي لعبتها بعض القوى السياسية الرافضة لنتائج الحرب الظالمة على الجنوب منذ السابع من يوليو البغيض، فإن هذه الأدوار ظلت مقيدةً بضوابط النظام والدستور الذين أنتجتهما الحرب وهو ما حال دون التعرض لقضية الجنوب كقضية هوية ووطن وتاريخ ودولة مكتملة المعالم والأركان، وعلى أرض ذات عاصمة وحدود وعلم وشعار وتمثيل إقليمي ودولي.
وهكذا فمع اندلاع الثورة الجنوبية السلمية في العام 2007م نشأت حالة من الانفجار الجماهيري العارم الذي تجاوز ليس فقط توقعات الأعداء وخططهم الوقائية، بل وحتى توقعات أنصار الثورة الجنوبية وروادها، لكن هذا الفيضان الجماهيري العارم كان يفتقد للأداة السياسية القادرة على توجيه سيوله المتدفقة في مساراتها التي تحقق الثمار المرجوة منها.
وبعبارات أخرى إن المقاومة السلمية الجنوبية التي اتخذت شكل الفعاليات السلمية والمليونيات الحقيقية كانت تمتلك حشودا جماهيرية عريضة ولكن بدون أداة سياسية متماسكة ذات رؤية سياسية منضجة ومقنعة، بل لقد نشأت حالة من الانقطاع التاريخي بين تجارب الماضي وصيرورة الأحداث الجديدة المتصلة بثورة الحراك السلمي الجنوبي، وذهب الأمر بالبعض (وإن كانوا أقلية)، إلى إعلان الشعارات المعادية لكل التجارب الجنوبية السابقة بما في ذلك تجربة جمهورية الديمقراطية الشعبية، وإعلان كل القيادات التاريخية السابقة والمناسبات الوطنية الجنوبية كأشخاص وأحداث ورموز معادية لشعب الجنوب كما يقول هذا البعض.
وهذا كان أحد الأسباب الرئيسية لتكرار الوقوع في مطبات المكائد والخدع التي كانت تعدها مؤسسات متخصصة تابعة لدولة مكتملة الوسائل والأدوات التي لم تبرز ولم تنجح في شيء مثلما نجحت في صناعة تلك المكائد.
وإذا كان لا بد من الإقرار بمحدودية التعلم من تلك المكائد والمطبات والخدع التي تعرض لها الجنوب والجنوبيون، فإنه من المهم الإقرار بعدم التوازن بين طرفي الصراع عندما يتعلق الأمر بالقضية الجنوبية، فالجنوبيون يتعاطون مع القضية بنفس الثوار المؤمنين بعدالة قضيتهم المتمسكين بمنطق الحق ضد الباطل وحتمية انتصار الحق وزهقان الباطل، بينما ظل الطرف الآخر وما يزال يتعامل من خلال مؤسسات دولة من مخابرات وأجهزة قمع ومطابخ استخباراتية وجماعات إرهابية، وبتجارب متراكمة في صناعة المكائد وحبك الألاعيب والدسائس.
هذا هو التفسير المختصر لظاهرة تكرار وقوع الجنوبيين وقياداتهم في المكائد والمطبات ومحدودية التعلم منها، وهناك تفاصيل كثيرة يمكن تناولها في سياق آخر من تقييم التجارب الجنوبية التاريخية.
* * *
وبالعودة إلى الحديث عن موقع القضية الجنوبية في المرحلة الراهنة فإنه لا يمكن التقليل من النجاح الذي تحقق على يد المجلس الانتقالي الجنوبي، في تسويق القضية الجنوبية وإيصالها إلى العديد من المنابر والمحافل الإقليمية والدولية، ومع ذلك فمن المؤسف أن الشركاء الإقليميين والدوليين ما يزالون يتعاطون مع القضية باستحياء شديد وكأنهم لو تحدثوا عن الجنوب وحقوق أبنائه وشعبه الأبي في استعادة دولتهم، كأنهم إنما يمارسون إحدى المحرمات أو يخدشون إحدى المقدسات أو يمارسون معصية من المعاصي التي تحرمها الأديان والأعراف والقيم العالمية.
* * *
أما تحول مشاورات الرياض ومخرجاتها إلى مصيدة وخدعة جديدة ضد الجنوب والجنوبيين فهذا ما لا يمكن استبعاده أو تأكيده إلا بتفكيك عناصر القضية ومكونات الإشكالية.
وهذا ما سنتناوله في وقفة قادمة