الإثنين - 29 ديسمبر 2025 - الساعة 03:36 م
٤/١ المقال الذي نشره الإعلامي السعودي الكبير الأستاذ عبدالرحمن الراشد في صحيفة الشرق الأوسط اللندنية، حول رؤيته لخريطة طريق عقلانية وتوافقية لقيام دولة الجنوب العربي، لا يمكن قراءته إلا بوصفه تشخيصاً سياسياً متقدماً للحظة اليمنية الراهنة، وتعبيراً عن المقاربة السعودية التاريخية والمتجددة تجاه جنوب اليمن، باعتباره عمقاً استراتيجياً أصيلًا للمملكة العربية السعودية ولمنظومة الأمن الخليجي ككل. وهي مقاربة تلتقي، في جوهرها، مع الرؤية التي تبناها المجلس الانتقالي الجنوبي منذ تأسيسه في ٢٠١٧، والتي أهلته ليكون طرفاً رئيسيًاً في معادلة اليوم، لا على هامشها.
ومع أهمية ما طرحه الكاتب من أفكار ومسارات، فإن بعض المداخل التاريخية والمقارنات الواردة في المقال قد لا تنسجم كلياً مع حقيقة القضية الجنوبية، التي لم تكن نتاج نزعة انفصالية كما يفضل البعض تكرارها، بل جاءت نتيجة مسار طويل من الإقصاء والتجويع والعنف السياسي، بلغ ذروته باجتياح الجنوب بالقوة العسكرية في حرب 1994، وتحويل الوحدة من مشروع شراكة إلى واقع إلحاق وهيمنة.
ولعل من الضروري التذكير، في هذا السياق، بأن المملكة العربية السعودية كانت من أوائل الأطراف التي نبّهت، في عام 1990، قيادة الجنوب آنذاك إلى مخاطر التسرّع في الذهاب إلى وحدة غير محسوبة العواقب، جاءت في لحظة انهيار دعم المعسكر الاشتراكي لليمن الديمقراطية عقب سقوط الاتحاد السوفيتي. وقد أثبتت التجربة لاحقاً أن تلك النصيحة لم تكن موقفاً سياسياً عابراً، بل قراءة استراتيجية بعيدة النظر، تجاه مآلات كيان هشّ لم تُبنَ وحدته على أسس مؤسسية أو توافقية، بل إلحاقية.
٤/٢ وقد شكّلت تلك التجربة الوحدوية المريرة لحظة وعي تاريخي لدى الجنوبيين، أفرزت إرادة سياسية جديدة، أكثر نضجاً وأقل اندفاعاً. فلم يكن الحراك الجنوبي السلمي مجرد احتجاجات مطلبية، بل تعبيراً حضارياً عن رفض الظلم، وتأسيساً لخطاب سياسي جديد تُوّج لاحقاً بقيام المجلس الانتقالي الجنوبي، بوثائقه المؤسسة التي قدّمت تصوراً واضحاً لشكل الدولة المنشودة، وطبيعة علاقتها بمحيطها اليمني الشمالي، والإقليمي والدولي، متجاوزة اخطاء نظام الجنوب، ونظام الوحدة.
ومن المفارقات اللافتة مؤخراً في المشهد اليمني، أن تحرك القوات الجنوبية داخل جغرافيتها الطبيعية قوبل بخطاب عدائي حاد من بعض القوى الشمالية، في حين أن مشاركة القوات الجنوبية في معارك الساحل الغربي، والبيضاء، وقعطبة، ومأرب، قُدّمت بوصفها قياماً بواجب وطني، عجزت عن القيام به عشرات الألوية الشمالية، حتى كادت مأرب أن تسقط. وهو تناقض يعكس إشكالية عميقة في تعريف “الوطنية” لدى بعض النخب، وفق منطق جغرافي انتقائي لا سياسي جامع.
ومع تصاعد التحولات، لجأت قوى الإسلام السياسي، وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين، إلى إعادة تفعيل خطاب التكفير والتخوين، مستخدمة آلة إعلامية ضخمة محلياً وإقليمياً، تعيد إنتاج فتاوى 1994 ذاتها، التي استباحت دماء الجنوبيين تحت شعار “قدسية الوحدة”، وكأنها نص قراني مقدس لا تقبل المراجعة أو المساءلة.
ورغم أن بعض النخب الشمالية اضطرت، تحت ضغط الواقع، في الحوار الوطني الشامل، إبان ادارة الرئيس الجنوبي عبدربه منصور هادي، إلى الإقرار بحق الجنوبيين في تقرير مصيرهم، إلا أنها ربطت ذلك باستحقاق مؤجل إلى أجل غير مسمى، وقدّمته لاحقًا بوصفه تنازلاً سياسياً.
٤/٣ إلى أن جاء تحرك التحالف العربي في أبريل 2022 ليعيد بعض التوازن إلى معادلة الشرعية، إدراكاً منه أن القوات الجنوبية كانت، ولا تزال، الأكثر تنظيماً وانضباطاً ومصداقية، وهي التي تنتشر اليوم في خطوط تماس حيوية، من الساحل الغربي إلى البيضاء وصعدة، وأنها السند الحقيقي لمشروع التحالف العربي في اليمن.
وبرغم ذلك، حافظ المجلس الانتقالي الجنوبي على خطاب سياسي مسؤول، يجمع بين مشروع استعادة الدولة الجنوبية، والالتزام بشراكة مكافحة الانقلاب الحوثي. غير أن التطورات الأخيرة شهدت إنقلاباً على هذا الخطاب، باتت فيه القوات الجنوبية تُطالب بمغادرة أرضها، بذريعة حماية “المركز القانوني للدولة”، في حين أن هذا المركز لن يستعاد عمليًا إلا بإعادة إنتاج منظومات الفوضى الإخوانية في وادي وصحراء حضرموت: تهريب السلاح للحوثيين، دعم الإرهاب، ونهب ثروات الجنوب النفطية لصالح شبكات فاسدة معروفة لدى التحالف قبل غيره.
وفي هذا السياق، يواصل رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، اللواء عيدروس بن قاسم الزبيدي، التأكيد على جاهزية القوات المسلحة الجنوبية لخوض معركة تحرير الشمال من الإرهاب الحوثي، وهو موقف يعكس التزاماً وطنياً صلباً، لا يقوم على منطق الاستسلام او التراجع أو المقايضة السياسية. وقد فشلت محاولات توظيف الأحداث في حضرموت لإدخال المجلس الانتقالي الجنوبي في صدام مع التحالف، لأن جوهر المشروع الجنوبي ظل قائماً على الشراكة لا القطيعة، وهو يمد يده اليوم بكل صدق، عله يلقى عقولاً منفتحة على الحوار.
٤/٤ إن خلاصة ما طرحه الأستاذ عبد الرحمن الراشد تلتقي، في العمق، مع رؤية المجلس الانتقالي الجنوبي وقيادته. فقد عبّر الرئيس الزبيدي بوضوح عن ذلك، في كلمته بمناسبة الذكرى الثامنة والخمسين للاستقلال: “إن مسيرتنا نحو انتزاع الاستقلال الثاني نحققها اليوم على أرض الواقع خطوة بعد أخرى، بصبر المؤمنين بحقهم في الحرية والكرامة والسيادة على أرضهم”. وهو لم يتحدث عن إعلان متعجل للاستقلال، بل عن مسار تراكمي، توافقي، عقلاني، ومتدرّج.
ومن هنا، فإن اللحظة الراهنة تفرض على جميع القوى اليمنية، شمالية وجنوبية، وتحت مظلة التحالف، الانتقال من منطق تعميق الأزمة إلى منطق صناعة الحل. ويكمن المدخل الواقعي لذلك في فتح حوار سياسي جاد وشامل، تحت مظلة التحالف العربي، وبقيادة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، لصياغة خريطة طريق واضحة للسنوات الثلاث القادمة، تقوم على الشراكة، وتحديد الالتزامات، وترتيب الأولويات، بعيداً عن لغة التهديد والوعيد.
فبدون هذا الحوار المنظم، ستظل الساحة مفتوحة للفوضى، ولن يكون المستفيد الوحيد سوى الانقلاب الحوثي وداعميه في طهران. أما بخارطة طريق عقلانية وتوافقية، كما دعا إليها الراشد، فيمكن تحويل التباينات إلى مسار سياسي منتج، يضع اليمن، جنوبه وشماله، على طريق الاستقرار، ويؤسس لشراكات إقليمية تحمي الأمن العربي والملاحة الدولية، وتُنهي عقداً من الحرب المفتوحة.