كتابات وآراء


الأحد - 14 ديسمبر 2025 - الساعة 08:24 م

كُتب بواسطة : د. توفيق جزوليت - ارشيف الكاتب


"بناء الدولة أولًا" في خطاب المجلس الانتقالي الجنوبي: قراءة في الشرعية والاعتراف من منظور القانون الدولي

في ظل الانهيار الشامل للدولة اليمنية، برزت ضرورة إعادة التفكير في مسار استعادة الدولة الجنوبية من زاوية الواقعية السياسية وبناء الدولة أولًا، بدل الارتهان لمنطق الإعلان السياسي المجرد.

بناء مؤسسات الحكم يعد شرطًا قانونيًا لقيام الدولة ذاتها. الواقعية السياسية كأداة للامتثال للقانون الدولي في السياق الجنوبي، تعني مواءمة المطالب السياسية مع متطلبات الشرعية الدولية، وذلك عبر بناء سلطة أمر واقع إيجابية قادرة على ضبط المحافظات الجنوبية.

لهذا وذاك القانون الدولي لا يعترف بالإعلانات الانفصالية المجردة، بل يتعامل مع الوقائع القانونية الناتجة عن السيطرة الفعلية والإدارة المستقرة. في هذا السياق، فإنه أثبت المجلس الانتقالي الجنوبي أنه قادر على إدارة الأمن؛ و توفير الخدمات العامة وتمثيل السكان في المفاوضات يكتسب تدريجيًا وضعًا قانونيًا خاصًا يشكل أساسًا للاعتراف المستقبلي.

المجتمع الدولي يميل إلى الاعتراف بالكيانات التي تُظهر قدرة على الحكم الرشيد وتسيطر فعليًا على إقليمها؛ ولا تشكل تهديدًا للسلم الإقليمي والدولي. وعلى هذا الأساس يصبح بناء الدولة أولا في الجنوب شرطًا لتفعيل استعادة الدولة.

إن مسار استعادة الدولة في الجنوب هو مسار قانوني بقدر ما هو سياسي. فبين الواقعية السياسية و”بناء الدولة أولًا” تكمن علاقة تكامل تفرضها قواعد القانون الدولي وممارساته.
فالدولة لا تُستعاد بإعلان رمزي، بل بإنشاء سلطة فعالة تستوفي شروط الدولة، وتُراكم الشرعية، وتُحوّل الحق التاريخي إلى واقع قانوني معترف به دوليًا.

"بناء الدولة أولًا" في التجارب الدولية شرط لممارسة تقرير المصير يُمارس عبر كيان سياسي منظم يمتلك سلطة تشريعية أو تنظيمية؛ وأجهزة تنفيذية وأمنية؛ وقدرة على بسط النظام العام؛ وإدارة للموارد العامة.

وبالتالي، فإن بناء مؤسسات الحكم في الجنوب لا يمثل بديلًا عن الاستقلال، بل الشرط القانوني السابق له. فالدولة لا تُعرَّف في القانون الدولي بالخطاب السياسي، بل وفق معايير اتفاقية مونتفيديو: الإقليم، السكان، الحكومة، والقدرة على الدخول في علاقات دولية.

في هذا السياق، يمكن النظر إلى الهياكل السياسية الجنوبية القائمة بوصفها سلطات انتقالية بحكم الواقع، تسعى إلى اكتساب شرعية وظيفية من خلال إدارة الأمن والاستقرار وتقديم الخدمات العامة.

هذه الشرعية، وإن كانت ناقصة، تشكل نواة قانونية قابلة للتطور، شرط أن تُدار بمنطق الدولة لا بمنطق الفصائل. فالشرعية في القانون الدولي المعاصر تُبنى بالأداء المؤسسي بقدر ما تُبنى بالتمثيل الشعبي.

إن بناء أجهزة أمنية موحدة، وإدارة مالية شفافة، وقضاء مستقل نسبيًا، كلها عناصر لا تسبق الدولة فحسب، بل تجعل استعادتها مطلبًا مشروعًا في نظر المجتمع الدولي، لا تهديدًا للاستقرار الإقليمي.

إن استعادة الدولة في الجنوب مسار قانوني – سياسي تراكمي، يبدأ ببناء مؤسسات الحكم، ويمر بتثبيت الشرعية، وينتهي بممارسة فعلية لحق تقرير المصير. فالدولة لا تُولد من الخطاب، بل من القدرة على الحكم، ولا تُستعاد بالشعارات، بل ببناء واقع دولتي يجعل الاعتراف نتيجة حتمية.