الإثنين - 26 مايو 2025 - الساعة 07:46 م
جاء الخطاب الأخير ليعكس أزمة حقيقية تعيشها "الشرعية اليمنية"، لا في موقفها السياسي فحسب، بل في قدرتها على مواكبة التحولات العميقة التي فرضها الواقع، وفي مقدمتها قضية شعب الجنوب، التي لم تعد قابلة للتجاهل أو التهميش أو التعاطي معها كمجرد تفصيل داخل مشروع سياسي متآكل.
الخطاب، الذي وُصف بأنه شامل، بدا مفتقدًا للوضوح في لحظة كان يُنتظر فيها الوضوح أكثر من أي وقت مضى. لا حديث صريح عن الجنوب، ولا اعتراف بتضحياته، ولا إشارة إلى قضيته المركزية، التي ناضل من أجلها شعبه منذ ما بعد حرب صيف 1994، وقدم آلاف الشهداء دفاعًا عن مشروعه الوطني في استعادة الدولة وهويته السياسية، وحدوده المعترف بها ما قبل 22 مايو 1990.
إن أكثر ما يُثير التساؤل في هذا الخطاب ليس ما قاله، بل ما لم يقله. لقد تحدث عن الدولة، دون أن يعترف أن الجنوب اليوم يدير شؤونه بإرادته، وأن قواه السياسية، وعلى رأسها المجلس الانتقالي الجنوبي، باتت شريكًا أساسيًا في المعادلة، وصاحب قرار مستقل لا تابع، وصوت لا يمكن كتمه، ولا تجاوزه.
في المقابل، جاء الخطاب متخمًا بالشعارات المكررة حول "الوحدة"، التي باتت بالنسبة لشعب الجنوب مرادفًا للنكبة السياسية والعسكرية والاجتماعية التي عصفت بدولته، منذ لحظة اجتياحها في حرب 1994، مرورًا بسياسات التهميش والإقصاء، وصولًا إلى محاولات اليوم لإعادة إنتاج "الوحدة بالقوة" تحت مظلة الشرعية.
الحديث عن "وحدة من أجل الدولة لا الميليشيا" بدا وكأنه رسالة مشفرة، موجهة ضد تطلعات الجنوبيين أكثر من كونها موجهة ضد الحوثيين. أما دعوات الشراكة والتنوع، فتصطدم بالواقع اليومي الذي يفرضه الإقصاء والتجاهل، وغياب أي تصور حقيقي لمعالجة قضية الجنوب كقضية شعب وهوية ودولة، لا كجغرافيا خاضعة لإدارة مؤقتة.
لم يكن الجنوب يومًا حجر عثرة أمام السلام أو معرقلًا للمبادرات الدولية، لكنه في الوقت نفسه لا يقبل أن يكون ضحية جديدة لحلول مفروضة تتجاوز إرادة شعبه. والحديث المتكرر عن "قرارات الشرعية الدولية" و"المبادرات الإقليمية" دون الإشارة إلى مطالب الجنوب وحقوقه، ليس إلا محاولة للهروب إلى الأمام وتفريغ القضية من مضمونها الوطني.
لقد آن الأوان لأن تتعامل القوى السياسية، وفي مقدمتها الشرعية، مع الجنوب كحقيقة سياسية وشعبية وتاريخية لا كملف مؤجل. فالمعادلة تغيّرت، والجنوب الذي احتضن الشرعية يوم تخلّى عنها الشمال، لن يسمح أن يُكافأ بالتجاهل أو بالعودة إلى مربع الوصاية.
الجنوبيون اليوم ليسوا في حاجة إلى خطاب مجاملات أو وعود مؤجلة، بل إلى موقف واضح يعترف بحقهم في استعادة دولتهم، ويضع أسسًا جادة لحل عادل، يتجاوز الشعارات إلى المواقف، ويتخلى عن لغة الترضيات إلى لغة الاعتراف.
إن أي خطاب لا يبدأ من الاعتراف بالقضية الجنوبية كركيزة لأي تسوية سياسية قادمة، هو خطاب منقوص، ومجرد من أدوات التأثير، ومآله السقوط أمام إرادة شعب صمد، وقدم، وضحى، ولن يقبل أن تُختزل قضيته في جملة ضبابية أو أن تُسحب من طاولة الحل تحت وهم "الشرعية الواحدة".
ختامًا، شعب الجنوب قرر، وصوته بات مسموعًا، ومن يظن أنه بإمكانه إعادة عقارب الزمن إلى الوراء، عليه أن يراجع التاريخ، ويقرأ جغرافيا الجنوب من جديد.