كتابات وآراء


الإثنين - 24 أغسطس 2020 - الساعة 04:40 م

كُتب بواسطة : وديع منصور - ارشيف الكاتب


ظلوا يمتصوا الهواء من رئتيه ، ثم رموها كأوراق ذابلة . هذا الذي يسمى بالشعب اصبح يتنفس بصعوبة إلى حد الإختناق . الهواء الملوث يزاحم دون رحمة ما تبقى من الاوكسجين القليل لإستمرار رئتيه في الحياة . ما أصعب الإختناق حين يكون أكبر من قدرة الإنسان على فعل شيء . لكن هناك كائنات من هذا الشعب إستطاعت أن تتكيف مع الهواء الملوث وهم يعيشون على إستنشاق العفن . اللعنة على العفن حين يستوطن الهواء والعقول.

لم يعد جسده النحيل قادرا على الوقوف طويلا . وهو الآن في العقد السادس من عمره ، وأصيب بمرض غريب برئتيه التي يحملهما صدره الضيق ، واصبح يتنفس بمشقة لا تخفى على أحد . جسده نصف العاري دائما بات محترقا من لهيب الشمس ، يلف حول خصره النحيل جدا قطعة قماش طويلة متسخة ، وهواء الصيف الثقيل يؤلم رئتيه أكثر فأكثر ، يجلس القرفصاء في زاوية قذرة في حارته العتيقة ، ورأسه دائما منكس للأرض . كان يعمل مع الحكومة منذ سنوات بعيدة ، لكنه مازال يتذكر رائحة خشب المكاتب القديمة . جميع سكان حارته يعتقدون انه مريض في عقله وليس برئتيه . لكنه ليس كذلك ، فقط اصبح عقله لا يستوعب ما يجري في مدينته التي لا تفارقها اللعنات ، وفي هذه البلاد التي يزداد تلوثها .. هذا جعله شخصا يعاني من صعوبة في التنفس كلما أراد إستخدام عقله . أقنع نفسه بأن الإستسلام أفضل من الجنون الكامل.

هذه البلاد ملوثة اكثر مما يجب . يظن الكثيرون فيها انهم يتنفسون الاوكسجين لوحده ، والحقيقة أنهم يتنفسون الكثير من الخرافات والقليل فقط من الاوكسجين . وفيما هم يتنفسون على هذا النحو أصبح العدد الأكبر منهم كقطيع مسلوب الإرادة ، وآخرون على وشك ان يفقدوا عقولهم.

في الشوارع التي تعوّد الناس المشي فيها ، أصبح بالإمكان رؤية المواشي المنزوعة الجلد وهي تمشي بالقرب منهم على قائمتيها الخلفيتين.

هل يمكن تقييم شيء على نحو منطقي حين يكون كل شيء غير منطقي . إيهام الشعب بأن صراعه الأساسي هو التصدي للهواء الملوث ، أفضل من إقتناعه بمواجهة من يلوثون الهواء . هذه وصفة جيدة ومجربة منذ عقود طويلة . ولا ضير في أن يصبح عقله يرى أشياء غريبة تمشي بالقرب منه ، وهو يحاول النجاة من الإختناق.