كتابات وآراء


الخميس - 30 يوليه 2020 - الساعة 03:07 م

كُتب بواسطة : قيس غانم - ارشيف الكاتب


[إنذار: أنا أستعمل إسم المرأة تماماً بنفس الجُرأة كإسم الرجل. إذا كان هذا يضايقك، إمتنع عن قراءة ما أكتب!]

من التوّاهي إلى كريتر – صفحة جديدة.

بالرغم من أنّ المسافة بين مدينة الميناء، أي مدينة التواهي ومدينة عدن الكبرى أي كريتر، كانت حوالي خمسة كيلومترات فقط، إلّا انّ عمليّة الإنتقال بدت عمليّةً ضخمة جدّاً في تلك الأيام. كانت مسؤولية الأسرة وتمّت بمعونة الأهل والأصدقاء وعلى مدى عدة أيام. ويبدو أنّها تمّت بسلام وبدون تلفٍ لممتلكات الأسرةِ المحدودة. لا أتذكّر كيف كان شعور الوالد وهو يترك منزل أبيه السيّد عبده غانم ولكنّي أخمّن أنه كان يتطلّع الى إستقلاليته وإلى الإقتراب من مكتب عمله في كريتر بالقرب من المنارة البيضاء المشهورة والى حيث كان يستطيع المشي إن أراد لقصر المسافة.

وأتصوّر اليوم أن والدتي، منيره لقمان، كانت تتطلّع الى ذلك اليوم بشغف، لأن المنزل الجديد كان أوسع من شقتنا في منزل جدّي عبده غانم، ولأن اسرة لقمان كانت منتشرةً في كريتر بأعداد كبيرة..

فبالإضافة إلى منزل والدها المحامي والصحفي، محمد علي إبراهيم لقمان، الّذي بدأ في حارة حسين، كانت هناك أسرٌ لقمانيّةٌ عديدة. إذ كان أشقاء وإخوان والدها يسكنون في حارة حسين المعروفة، مثل عبدالمجيد لقمان وزوجته فطّوم محمد ناصر الّتي أنجبت عدداً كبيراً من الذكور والإناث الّذين عرفتهم عن قرب إبتداءً بتوفيق ثمّ فيصل الّذي أغتيل بعد ذلك بسنين طويلة، وزبيده وشيرين ورجاء وقيصر و – وغسان الّذي هاجر الى اوتاوا في كندا حيث أراه بانتظام. وفي نفس الدور كان يسكن خالد لقمان الّذي أنجب سامي الذي هاجر الى دبي، وفوزي وأنسام ومحمد وربما آخرين. وما زلت أتذكر كيف كان فيصل عبدالمجيد لقمان يأخذني وشقيقي شهاب إلى السينما بطلب من أمّنا.
وكان هناك أيضاً صالح علي لقمان مع أطفاله واتذكّر منهم عبدالمحسن الّذي عرفته فيما بعد في لندن، وعزيزه وأنسام الخ. وكان جدّي صالح يبيع مكائن الخياطة التى تصنعها شركة سنجر.

وكان لجدي محمد علي لقمان إخوة من أمٍّ مختلفة، إسمها قدريه، ومنهم حمزه لقمان المشهور بكتابه "الأمثال العدنيّه" والمحامي المعروف محمود لقمان ثمّ علي بن علي لقمان، بالإضافة إلى إناث أتذكر منهنّ ملكي وأم السعد و ---.

أمّا أشقاء والدتي فقد كنت على إتصال دائم بهم بداية بكبيرهم علي، الشاعر الرقيق والصحفي البارز، الذي كان يحرر "فتاة الجزيرة" مع والده ثم ايدن كرونيكل ثم صحيفته المستقلّة "القلم العدني". وهو والد الدكتور الراحل وجدان لقمان الّذي هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان من كبار أطباء الجيش الأمريكي وكان قد تخصص في أمراض الغدد الصّمّاء. وزارني في كندا حيث التقى بخاله مجيد جرجره، وزارني ايضاً في جامعة مِشيجان عندما كنت أتخصص في الأعصاب. وإبنته وداد تعيش مع زوجها بالقرب من مدينة دترويت حيث تجمّعت جاليّة يمنيّة كبيره وحيث تمثلهم في الكونجرس الأمريكي الفتاة الصوماليّة أيان حرسي التي ذاع صيتها في أمريكا. ووجدان أيضاً شقيق المرحومة جهاد، إبنة علي لقمان وغانيه جرجره، وهي زوجة شقيقي الدكتور الشاعر الكبير، الّذي ألّف خمسين كتاباً كما سمعت، أي شهاب غانم الذي استقر في دبي منذ عقود.

ثمّ يأتي بعد علي لقمان، الأستاذ عبدالرحيم لقمان الذي تخرّج من جامعة القاهرة حسب معرفتي ثم أكمل دراسته في بريطانيا وكان مديراً للمدرسة الثانويّة بعد المستر شربز البريطاني. وتعرّفت عليه عن قرب عندما إنتقلنا إلى الساحل الأمامي في كريتر، أمام المحكمة، إذ كانت هناك ستة منازل سكن في أحدها خالي عبدالرحيم الأعزب عندئذٍ.
فكان يفرح بي خاصّة لأنّه كان لوحده في منزل بحجم منزلنا الذي يتسعُ لستة أشخاص في العادة. وهناك ذقت، لأول مرة الكورن فليكس التي ولا شك كانت فطوره المعتاد! وشاءت الصدف أن يبني منزله الأخير في خورمكسر تماماً أمام منزلنا هناك. وهناك تعرفت على زوجته الّتي كانت من أسرة أرسلان كما أتذكر، وإبنه المعتصم. وبالصدفة كنت في حديث الكتروني مع إبنه فارس منذ يومين فقط.

وبين المنزلين في الخليج الأمامي، أمام المحكمة، وبالقرب من المدرسة المتوسّطة، وميدان الكرة، كان يسكن الأستاذ عبدالله نورالدّين وزوجته، عمتي شفى عبده غانم وأطفالهما الكثيرون الّذي شقوا طريقهم في العلم والمهن الرفيعه في أبوظبي حيث استقر الإخوة الثلاثة مع عائلاتهم وهم عبدالله وحسن وشرف، أبناء نورالدين شهاب، وحيث استقرّ الشهابيُّ الآخر، صديقي الحميم الدكتور صالح عبدالهادي شهاب إختصاصي أمراض الأطفال. وكان صالح قد قضى عدة أشهر من التدريب الطبّي في بريطانيا وكنا نتزاور أحياناً. وهو الأخ الأصغر للدكتور طه. وهؤلاء أبناء محمد عبدالهادي شهاب، الذي كان صاحب متجر في التواهي في نفس الشارع حيث كان متجر السيّد عبده غانم والحاج حيدر عبده حمزه، وهو خال والدي! والأخ الثاني لصالح كان مدير الشرطة عبدالهادي شهاب الّذي إقترن بعمتي خديجة، وسُجن في النهاية في جزيرة سقطرى أو جزيرة أخرى، كما فهمت، ومات هناك. فمن أطفال عبدالله نورالدين شهاب هناك الدكتور بدر إختصاصي الأذن والأنف والحنجره والدكتوره سحاب في الأسنان والدكتوره ثريّا في الطب وأعتذر لأنني لا أتذكر البقيّة. وفي المنزل الرابع سكن الاستاذ زوقري ثمّ المدرس الّذي علّمني الكثير وهو إبراهيم روبله الّذي درس في أم درمان وكان يحب الفكاهة، وأيضا الأستاذ زين الحازمي. وما زلت أتذكر أطفاله بما فيهم قدرية التي كانت تزور شقيقتي عزّة بانتظام. وكان للسيّد زين دورٌ مهمٌ في إدارة التعليم في عدن بعد تقاعد والدي.

في المدرسة المتوسّطة، أمام ميدان الكرة، تعلّمت الكثير من الكثيرين من المدرّسين وكان من بينهم أخوالي إبراهيم لقمان وحامد لقمان، ثم علي غانم كليب الّذي علّمني الرياضيات وفي وقتٍ لاحقٍ سافر إلى بريطانيا، بتشجيعٍ قويٍّ من والدي، فتخرّج من هناك في الهندسة المدنيّة وبرهن على جدارة كبرى. وكان قد اقترن بزبيده ابنة جدي عبدالمجيد لقمان، التي كانت تزور والدتي بانتظام، وهي أم الصديقة الوفيّة وداد كليب التي كانت، هي والدكتور الكبير عبدالله السيّاري، أوّل من قيّما روايتي الإنجليزيّة "صبيّان من كلّيّة عدن"، والّتي رأيتها في لندن منذ أربعة أشهر. فلندن نقطة لقاء رائعة ومناسبة للتواصل المستمر مع الأحبة الكثيرين. وعلى رأسهم الدكتور العزيز المخلص عادل عولقي ألّذي عرفته معرفة وثيقة عندما كنا في كليّة الطب في جامعة إدنبره، حيث تخرج عادل بعدي بثلاث سنوات. وهو الّذي شجّعني على كتابة مذكراتي وملاحظاتي (ولا شك أنه ندم على ذلك فيما بعد!!) وهكذا كتبت أولى رواياتي بعنوان "آخر طائرة من صنعاء" باللغة الإنجليزيّة وترجمتها الى العربية قبل أشهر قليلة في الموقع التالي. وفيها تنبأت بمقتل علي عبدالله صالح في هجوم جويّ داخل صنعاء.
https://www.smashwords.com/books/view/347273

وفي لندن يسكن أيضاً زميل الدراسة المحامي القدير عوض بن عوض مبجر وإبنته الرائعة صفاء، زوجة محمد الأصنج، التي كثيرا ما تجتمع بنا في زيارات متكررة الى تلك المدينة الفريدة. وكنت قد أجريت مع عوض مبجر قبل سنين مقابلة مصوّرة حيث تحدّثَ عن نشاطاته السياسية والقانونية والإجتماعيّة في عدن وأيضاً مع عبدالله الأصنج وذكّرته بأيام سفرنا الى كلّيّة عدن بالباص وكيف أنّه رمي (زنقله!) ببرنيطة خالد علي قاسم من نافذة الباص الى الشارع! وكان عوض مبجر طالباً ذكياً جداّ وكثير القراءة فكنّا نتنافس في كليّة عدن على من يكون الأوّل في الصف. وسأحاول أن اراه في زيارتي القادمة للندن إذا ساعدتني على ذلك إبنته صفاء التي قلّما تجد الوقت بسبب نشاطاتها الإجتماعية الكثيره. ومن جهة أخرى كان منافسي الرئيسي في الرياضيات محمد عبدالقادر جرجره الّذي كان أيضاً كابتن الكلّيّة وتوفي مؤخراً هنا في أوتاوا، عاصمة كندا، حيث استقر عددٌ من أسرة جرجره بما فيهم سميره عثمان جرجره أرملة محمد، وماهر جرجره شقيق محمد، مع زوجته وفاء جرجره وصديقي الوفي، أشرف عثمان جرجره الّذي كان مذيعاً مشهوراً في محطة تلفزيون عدن وزوجته مارجريت. أمّا نايجل جرجره، إبن الصديق الراحل مجيد جرجره، فقد هاجر من اوتاوا إلى مقاطعة مسيسيبي في الولايات المتحدة وانقطعت أخباره باستناء طلب مني أن أترجم شهادة ميلاده في عدن! أما شقيقته ناديه جرجره فقد إنتقلت مع اسرتها الى مدينة هاليفاكس. ولكنني على إتصال وثيق بأشرف جرجره الذي يسكن في كنجستن قريبا من زميلي في كلية عدن، عبدالكريم علي عبده الذي ربما كان أوّل مهاجرٍ من جنوب اليمن إلى كندا وزرته في بورنموث في عام 1959 تقريباً. (التصحيحات مقبوله مع الشكر!)

وفي كليّة عدن، كان بين المدرّسين الآخرين، عبدالعزيز عمر علي وعبده سعيد شيباني والمنيباري وحنبله وأحمد بن أحمد ثابت الذي كان قد فرّ من بطش الإمام في الشمال. كان يتحدّث العربيّة الفصحى بطلاقةٍ تامّة وبدون أيّة أخطاء نحويّة! فقد كنت في تلك المرحلة أعشق اللغة وأحرص على اكتشافِ الأخطاء في كلام المدرّسين! وهناك تعرضتُ لأوّل مرّة – وآخر مرّة – للضّرب من مدرّس إسمه سعيد فرور! لا أتذكّر لماذا! وكان مشهوراً بضرب من هبّ ودبّ من التلاميذ. ولكن ما زاد الطّين بلّه هو أنّه لم يستعمل عصا "الخوزران" المعتادة، ولكنّه خرج من الغرفة وذهب الى شجرة "الديمن" الّتي تحمل أشواكاً خطيرة واقتطف غصناً منها وأمرني بأن أمدّ ذراعي وانهال ضرباً على كفّي التي بيّنت الخطوط الحمراء لأمي عندما عدت الى المنزل. واليوم، بعد سبعين سنة، ادركُ صحّة ما يقوله الاختصاصيون في علم النفس عن وقع التعذيب النفسي أو الجسماني على المساجين وأسرى الحرب والأطفال اليتامى والمرأة المغتصبة وكل الّذين يتعرضون لمثل هذه المعاملة بل وأسوأ منها بكثير!

في تلك الفترة، في منزلنا الأرضي، إستأنف الوالد إنتاجه الأدبي. وكان قد تخرّج بدرجة الشرف في الآداب من الجامعة الأمريكية في بيروت في عام 1936 أي قبل زواجه. ثمّ أنّه نشر بعض أشعاره في صحيفة "عمّه" لقمان، أي فتاة الجزيرة ولا أدري إذا كانت العلاقة الأدبية سبباً في زواجه من والدتي، منيره لقمان أو أن العكس صحيح إذ لم أكن في عالم الوجود عندئذٍ. ولكنه أثّر، كما يبدو، على شاعرين مهمّين هما خالي علي محمد لقمان وأستاذي في كليّة عدن الشاعر الرومانسي لطفي جعفر أمان وهو عمّ فاروق أمان الصديق الحميم والكاتب والمعلّق المعروف في عاصمة كندا. وأسس الوالد صداقة متينة مع الشاعر الشمالي محمد محمود الزبيري وفي وقت لاحق مع الشاعر الدكتور عبدالعزيز المقالح (مدير جامعة صنعاء).

ولكنه قام بمبادرة أدبيّة فريدة إذ ألّف كتاباً عنوانه "عدني يتحدث" في شكل حوار بين صبيّ إسمه محمد وأبيه الذي أسماه في كتابه "والد محمد"! وكانت سلسلة من الحوار عن رحلات حقيقية أو مختلقة كان "والد محمد" يقوم بها، مع أسرته، إلى مشيخات ومناطق الجنوب اليمني الذي كان يسمى بالمحميات، أي أن بريطانيا كانت تحمي العوالق والعبادل والحضارم من أي إعتداء خارجي. لم يكن كتاباً عن السياسة ولكن عن الجغرافيا والموارد الطبيعيّة والعادات والتقاليد في تلك المشيخات الصغيرة والمتعددة. كان والدي يريدنا نحن أطفاله أن نعرف الكفاية عن سكان تلك المشيخات وكان يوبخنا إذا استعملنا كلمة البدو، كما كان شائعاً في عدن. وكان يذكّرنا بأن الفرق بيننا وبينهم هو أننا في عدن وُهبنا فرصة التعليم، على عكسهم. ولأنّ الوالد من السادة أي سلالة الرسول، عليه الصلاة والسلام، كان أكثر الناس هناك يحاولون أن يقبلوا يده إحتراماً ولكنّه كان يسحبها بسرعة ولا يشجع تلك العادة. ومما زاد الطين بلّة أن بعضهم كان يحاول أن يفعل الشيئ نفسه معي أنا رغم طفولتي، ربما لأنني كنت البِكر في الأسرة، مما كان يحرجني أيّما إحراج. وكان يذكّرنا دائما أن ندرك أننا محظوظون بالعلم والمعرفة، ويجب أن نشجع التعليم في تلك "المحميات"، مذكراً أننا لو أهملنا ذلك فسيأتي اليوم الذي نرى القبائل المسلّحة والمحرومة من العلم والمهن والفرص، وهي تغزو عدن بالسلاح وتقول "لقد جاء دورنا!" واليوم، ربما يعترف الناس للوالد ببعد نظره، بالإضافة الى كلّ تلك المواهب الأخرى والإنجازات العديدة.

بعد ذلك قرر الوالد أن يؤلّف كتاباّ يعلّم الموظفين البريطانيين في عدن اللغة العربيّة المحلّيّة الدارجة وكان عنوان الكتاب لغة عدن العربية للمبتدئين. ولأنّ الكتاب كان بالحروف اللاتينيّة وجدت نفسي في مطبعة فتاة الجزيرة، أي مطبعة جدّي الأستاذ الصحفي محمد علي لقمان لأقوم بتصحيح البروفات للموظفين اللذين كانوا يصفّون الحروف الإنجليزية مع أخطاء كثيرة. ولكني استفدت من تلك التجربة الّتي نبّهتني إلى الفروق بين اللغتين في تصميم الجملة، وأعتقد أن لغتي الإنجليزية تحسنت قليلاً بذلك. وعندما كنت أحضر مطبعة جدي لقمان، كنت أجده مشغولاً بكتابة مقالاته الإنجليزيّة لصحيفة "أيدن كرونكل" على مطبعة يد قديمة سوداء، وأنظر بإعجاب الى جدي، وبعجب إلى آلة الطباعه وكيف كان يضغط بسبابته اليمنى ثم اليسرى على مفاتيح الآلة التي تطبع الحروف على الورق. وعندما لاحظ ذلك عرض عليّ أن يعلّمني كيف أطبع. وكطفلٍ يملؤه الفضول فرحت لذلك. ولكنه أخبرني أن طريقته في الطباعة بالسبابتين كانت خطأ في خطأ، واشترط عليّ أن أطبع بالأصابع العشر كم يفعل المحترفون. فقلت له: ولكنّك أنت تطبع بسرعة باصبعين. إبتسم وقال: أنت تقول ذلك لأنك لم ترَ سرعة السكرتيرات المحترفات! وانا أريد لك النجاح ولن أعلّمك إلاّ إذا قبلت الشروط، ويوماً ما عندما تكبر وتستقل، ستشكرني. وهكذا جعلني أدرّب أصابعي العشر على طباعة الحروف بالتتالي:
وهكذا اكتسبتُ مهارةً جديدة نفعتني كثيراً، خاصة عندما ألّفتُ رواياتي.ASDFG!

والحقيقة هي أن العلاقة الأسريّة والأدبيّة بين هاذين العملاقين في الأدب واللغات كانت فريدة وكانت مبنيّة على احترامٍ متبادل رغم الطباع المختلفة. فبينما كان الوالد جادّاً وحصيفاً في كلّ ما يقول، كان الجِدّ أقلّ جِدّيةً (!) وأكثر مزاحاً، يرتكب الأخطاء فلا يبالي ويصحّحها ثم يضحك. وكان يجيد ما يسمى في عدن "بالصّفاط" بما في ذلك مع زوجته أو حتى أن يطبع قبلة خفيفة على وجهها أمامي، وِلمَ لا! ولكنّي لم أرَ أيّ رجل عربي آخر يفعل ذلك أمامي. حتى الأفلام المصريّة لم تصوّر تلك المواقف في تلك الفترة.

وكان الإثنان، جدّي ووالدي، من لاعبي التنس في نادي صيره حيث كان والدي رئيساً منتخباً لعقود! وعندما كانا يلعبان ضد بعض، كان جدّي يتعمّد أن يستفز والدي لكي يتسلّى! فكان يصرخ متعمّدا أن الكرة وقعت خارج الخط الأبيّض حتى عندما تكون على الخط أو حتى قبل أن تمسّ الأرض! وبعد فترة طويلة إعتاد والدي على ذلك المزاح.
وكان بين اللاعبين المنتظمين عددٌ كبير من رجال الطبقة المثقفة إذ كان نادي صيرة ملتقاً إجتماعياً لمثل أولئك الرجال المنسجمين مع بعض. وفي كل عام عقد النادي المباريات السنويّة الّتي كان يحضرها عدد كبير من العرب والهنود والأوروبيين. وما زلت أتذكر انّ المباراة الفردية النهائية كانت في أكثر السنين تدور بين رجلٍ عدني عربي إسمه عبدالحميد مكاوي ورجلٍ عدنيٍ هندي إسمه تيفاري.

ومن بين اللاعبين كنت أرى السيّد مهيوب سلطان الذي كان له أسلوب فريد في اللعب يعوّض عن عدم مقدرته على الركض السريع وراء الكرة! كان لطيفاً جداً معي وشجعني على المثابرة على لعب التنس. وشاء القدر بعد ذلك بعقود أن يعقد! أقصد يتزوّج ابنه الثاني، حسين، شقيقتي الصغرى سوسن، وهما اليوم قد كوّنا أسرة كبيرة متميّزة في دبي. وكان حسين سلطان أثناء الدراسة في كليّة عدن من المبرزين في الدفعة التي سبقت دفعتي، وبرهن على مقدرة قياديّة فعيّنه المدير شربز ما يسمى قبطان المدرسة. وصادف أنه حصل على منحة لدراسة الهندسة المعماريّة في جامعة جلاسجو في اسكتلندا، فعندما التحقت أنا بجامعة إدنبره في السنة التالية، كنا على بعد سبعين كيلومتر من بعض، وتزاورنا هناك فقد كنا، بالاضافة إلى المرحوم شوقي لقمان (خالي) أصدقاءً في عدن.

والطريف في الأمر هو أن الطلبة اليمنيين في الجامعات الاسكتلندية الكبرى الثلاث كوّنوا نشاطاً رياضيّاّ جديداً يربط الجامعات في جلاسجو حيث كان حسين سلطان وادنبره حيث كنتُ وأبردين حيث درس الفقيد حافظ لقمان، ونجيب حامد خان إبن مدير شرطة عدن وشهاب غانم و الفقيد جراح العيون عبدالمجيد مسعود . فقد أدخلنا الكرة الطائرة ضمن المسابقات الرياضية الجامعيّة وهكذا تزاورنا فيما بيننا. ولا أتذكر إن كان حسين سلطان من فريق جلاسجو.

وشقيق حسين الأكبر كان الدكتور محمد سلطان، ذلك الرجل المرح البشوش الّذي كان يحب الموسيقى ويعزف العود، الى جانب إنجازاته كأختصاصي في الأمراض الباطنية من الكلّيّة الملكيّة في لندن، حيث زرته وقضيت يوماً في شقته. وبعد فترة قضاها في عدن، شاءت الأقدار أن يتزوّج إبنة طبيب الأسنان الكتور الخروصي الذي مارس مهنته في عدن، وأن ينتقل في النهاية إلى مسقط حيث أصبح الطبيب الخاص لوالدة السلطان قابوس وحيث زرته في منزله الذي كان محاطاً بثلاث سيارات من نوع الرولز رويس وقابلت زوجته وأولاده! وبعد ذلك بسنين طويلة قابلته في لندن بعد أن مرّ بعمليّة كبرى، وهي زرع الكبد، وتوفي بعد ذلك، رحمه الله.

ولكنّ علي سلطان، الأخ الأصغر، كان، هو الآخر، صديقا حميماً خلال أربع سنوات قضيتها كأول استشاري في الأمراض العصبيَة في الإمارات، في مستشفى راشد في دبي، حيث أدخلت علم وأجهزة تخطيط المخ وقياس السرعة الكهربائيّة في الأعصاب الطرفيّة والعضلات. وفجعنا بوفاته من تعقيدات مرض السكّري بعد أن خسر إحدى ساقيه بالسكري. ولكن زوجته الأيرلندية وإبنته عائشة (تيمناً باسم أمّه عائشه محمّد ناصر من أسر التواهي العريقه) وإبنه نبيل، الذي تزوج إمرأة من بوزنيا، قد استتب بهم المقام في دبي.

وسوف أختتم خواطر هذا الأسبوع بمقالة كتبها جدّي لقمان عام 1936 حيث قال:

"لقد أثبت التاريخ الحديث التأثير العظيم الّذي أحدثته الصحافة في شتى مناحي الحياة في أوروبا وأمريكا واليابان وكثيرٍ من البلدان الشرقيّة الفتيّة، وكما أنّ للصحافة الفضل الأكبر في النهضات القوميّة، والتقدم الأدبي والرّقي الفكري، فان النظام الإقتصادي الحاضر يعتمد على الجرائد والكتب في تتبع سير الأحوال التجاريّة. ولما كانت عدن ونواحيها بحاجة ماسّة إلى جريدة عربيّة تكون لسان حالها، عزمتُ على إصدار هذه الصحيفة خدمة للبلاد وأهلها، جاعلاً هذه الصحيفة منبراً لشباب الجزيرة العربيّة وأدبائها، رامياً فيما أرمي إليه إلى تعميم التعليم للبنين والبنات، ناشراً ألوية الأخلاق الحميدة".

ولكنّه أضاف في 1940:

"كيف نرقى ونحن لا نفكر فيما يعود على بلادنا وعلى أنفسنا بالخير؟ نقضي الساعات الطويلة في مبارز القات من غير فائدةٍ نجنيها أو علمٍ ننتفع به، نصرف الذهب في ملاذ مضرّة بدلاً من إنفاقها على تعليم البنين والبنات، وعلى إصلاح المساكن والعمارات؟"